موقف الغربيين من لغتنا العربية
فطن أعداء الإسلام للعرى الوثيقة التي تربط بين العقيدة الإسلامية واللغة العربية ، فعملوا جاهدين على محاربة اللغة وإضعافها ، واتبعوا في حربهم هذه طرائق شتى ، بغية إصابة الإسلام في مقتل ، بعد أن فشلت محاربته محاربة سافرة ، لأن إعلانهم العداء للإسلام وإظهارهم له بشكل سافر كان يؤدي بالمسلمين إلى شد العزم وشحذ الهمم ، والاعتصام بحبل الله المتين في مواجهة كل من يريد بدينهم وعقيدتهم سوءاً .
وحين أدرك المتربصون بالدين الإسلامي ، الحاقدون على حضارته أن مواجهة الإسلام في ميادين الحرب لن تجدي شيئاً وأنهم لا محالة خاسرون جولاتها ، سعوا لتقويض عقيدة المسلمين من طريق تطويق لغتهم ، ومحاربة لسانهم ، لأن دروس التاريخ وحقائق الواقع أكدت لهم أنه لا ثقافة أصيلة دون لسان يعبر عنها ، ويحمل مضامينها ، ويشرح ألفاظها ومعانيها ، ويصون فكرها ، مما يعني أن فقدان الثقافة لسانها هو في الواقع موت لها .
ومن ثَمَّ وفد كثير من المستشرقين الذين وُظِّفُوا لهذا الغرض إلى ديارِ الإسلام ، فعكفوا على دراسة أحوالها وظروفها ، والسبل الكفيلة باختراقها ، والسيطرة عليها .
ولأن قوافل المستشرقين كانت المقدمة التي تمهد لاستعمار أي بلد من بلدان العالم الإسلامي عن طريق قيادة حملات لاستكشاف أوجه حياتها الثقافية والفكرية ، فقد رأى هؤلاء أن إشاعة روح الإزدراء والكراهية في نفوس أبناء المسلمين تجاه لغتهم تعد سبيلاً من السبل التي يمكن أن يسلكوها لتحقيق مآربهم في إحكام السيطرة على البلاد الإسلامية ، وتأصيل روح التبعية في الأجيال الجديدة ، بحيث تنقطع كل صلة لها بإرثها الحضاري .
وصوَّر هؤلاء المستشرقون اللغةَ العربية على أنها تحمل كل مظاهر الضعف والهوان في ثناياها ، وأنها عاجزة عن احتواء مصطلحات العلوم ومسميات آلات الحضارة ، ومستجدات الفكر الإنساني في المجالات المختلفة .
وبذلـك تكون قد بلغت في زعمهم المرحلة التي بلغتها لغات أخرى ، قعدت عن ملاحقة الركب ، فانكفأت على ذاتها وانزوت ولم يعد لها مكان إلا في بطون الكتب القديمة .
وجاء الاستعمار العسكري إلى كثير من البلدان الإسلامية العربية بخطط وسياسات رمت إلى توسيع الهوة بين المسلمين ولغتهم العربية ، إذ أغلقت المدارس العربية ، واضطهد علماء الدين واللغة ، وتم الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية ، وحولت بعض المساجد إلى كنائس ، وحُرم كل من يعتز بعربيته ويتخذها لغة حديث وعلم - من تبوء الوظائف .
وفي الوقت نفسه أنشئت المدارس التي تعنى بتعليم لغة المستعمر ، وكان جل من التحق بها من أبناء علية القوم ، ممن انساقوا وراء مزاعم المستعمر فرطنت ألسنتهم بلغته ، وتولد لديهم شعور بالرفعة والتميز من غيرهم من أبناء جلدتهم ، مما أدى إلى انسلاخهم من مجتمعهم ، وانقيادهم للمستعمر الذي وجد فيهم أداة صالحة لتنفيذ مخططاته ، ومؤامراته الرامية إلى إحلال لغته محل اللغة العربية ، التي أشـاع عنها أنها لغة المشاعر والعواطف ، ولا تصلح للعقول والأفكار والعلوم التي هي نتاج العصر وسمته البارزة .
وظن بعض أبناء المسلمين الذين بهرتهم حضارة المستعمر وسرى في لغتهم الضعف والاستعجام أن هذا هو الطريق المؤدي إلى إذابة الفروق بين الشرق والغرب ، وتحقيق الرباط الحضاري بينهما ، وإحداث نقلة حضارية للشرق الإسلامي تختزل سنوات التخلف والركود التي عاشها .
مما دفعهم للدعوة إلى أمور عدة :
منها : الدعوة إلى استعمال الحرف الأجنبي بدلاً من الحرف العربي الذي يتسم في زعمهم بالصعوبة والتعقيد .
ثم روج بعضهم إلى التخلص من حركات الإعراب التي زعموا أنها تَعُوق جريان اللغة بسلاسة وعذوبة على الألسنة .
ثم واتت الجرأة بعض المستشرقين للدعوة إلى إفساح المجال للعامية ، حتى تصبح لغة الحياة والثقافة بوصفها اللغة التي تتحدث بها الغالبية ، بينما يقتصر استخدام اللغة الفصحى على فئة قليلة من المثقفين ، ومسوغ دعوتهم أنهم يريدون إشاعة الثقافة في أوساط العامة .
وقد ربط المستشرق وليم ويلكوكس بين استخدام الفصحى وتخلف المصريين ، وبشر بأن تقدمهم مرهون باستخدام العامية ، لأنها لغة الشارع التي يستطيعون بها مجاراة العصر في مصطلحات علومه وتقنياته .
وقد كثرت كتب المستشرقين التي وضعت لقواعد العامية المصرية واللبنانية ، ورصدت الجوائز لمن يكتب بالعامية ، وكان جل هؤلاء ممن يحمل حقداً دفيناً على الإسلام والقرآن الكريم ، ويرون أنه لا غضاضة في أن يضع المسلم مؤلفه باللغة العامية ، ويتعبد لربه ويؤدي الفرائض بالفصحى .
وقد تناسى هؤلاء أن العرى بين الدين الإسلامي ولغته لا تنفصم ، إذ لا مكان للازدواج اللغوي في الثقافة الإسلامية كما هو الحال في غيرها من الثقافات .
وفاتهم أن شيوع العامية يعني التخلي عن التراث الثقافي الهائل الذي خلفته الحضارة الإسلامية على امتداد القرون مما يمثل انقطاعاً عن الجذور ، وتيهاً في بيداء العدم .
ولكن على الرغم من سطوة المستعمر وامتلاكه أسباب النفوذ والقوة ، وقدرته على تمـرير سياساته وخططه ، فإن كثيراً من الحادبين على لغتهم العربية فطنوا إلى ما يراد بهم وبثقافتهم الإسلامية ، فراحوا يفندون الدعاوى التي بنيت عليها تلك السياسات والخطط ، وكشفوا أن الحضارة الإسلامية التي كان لها القدح المعلى في صون الإرث الحضاري الإنساني من الضياع في غياهب الجهل الذي ساد أوروبا وغيرها من مناطق العالم إبان القرون الوسطى - لم تكن لغتها إلا اللغة العربية التي استوعبت العطاءات الحضارية للإنسانية جمعاء .
حتى أصبح العربي الذي لم يكن له عهد بعلوم الحساب والهندسة والفلسفة والطب وغيرها يردد نظرياتها ويعرف أسماء أصحابها ويفهمها فهماً واعياً ، بل يضيف إليها ويقومها .
بل إن أوروبا لم تستطع النهوض من ركودها وتخلفها وتحقيق ما هي عليه الآن من تقدم حضاري إلا بفضل اتصالها بالحضارة الإسلامية ، وعكوفها على ترجمة ما أبدعه علماء المسلمين في مجالات الفكر والعلم كافة .